أوتا بنجا | ما أتعس الإنسان
هي واحدة من القصص الصعبة، قصة أوتا بنجا أو بنغا القزم من الكونغولي، الذي عاش تجربة شديدة الصعوبة، بعد قتل كافة أسرته، ثم تقديمه في المعرض الأنثروبولوجي في سانت لويس سنة 1904 بوصفه أقرب حلقة انتقالية للإنسان، ولاحقا في معرض الإنسان المثير للجدل في حديقة الحيوان في برونكس عام 1906 حيث قام أحد الباحثين في مجال التطور بأسر أوتا بنجا سنة 1904 في الكونغو.
وقصة أسره، قصة تستحق أن تروى، قصة تدل على مدى جهالة وحقارة فاعليها.
كان أوتا بنجا شاباً بسيطا ومرحاً، ويعيش حياة بدائية وسعيدة مع زوجته وطفليه في قرية هادئة محاطة بالغابات الاستوائية على ضفاف نهر كاساي في الكونغو، وكانت الكونغو وقتها امستعمرة بلجيكية في ذلك الوقت (عام 1904).
(ملحوظة هامشية: سيطرت بلجيكا على مستعمرتين خلال تاريخها، الكونغو البلجيكية (جمهورية الكونغو الديموقراطية حاليا) منذ العام 1908 وحتى العام 1960، ورواندا– (رواندا وبرونودي) منذ العام 1922 وحتى العام 196، امتلكت بلجيكا أيضًا تركات صغيرة في الصين، وشاركت في إدارة منطقة طنجة الدولية في المغرب، الغريب إن مساحة الكونغو 76 ضعف مساحة بلجيكا.
نعود لصديقنا أوتا بينغا، الذي عاش حياة بدائية، لكنها كانت سعيجة بالنسبة له، كان يؤدي فيها دوره كأب وزوج، وكان يهتم لشئون أسرته، حتة هجمت القوات الإستعمارية على قريته، ليبدأ القتل العشوائي في أهل القرية العـزّل، فأُبيدوا عن بكرة أبيهم! لم يبقى فيها شيء يتنفس، فيما عُرف بمذبحة الأقزام التي تبنتها مجموعة مسلحة شرسة في خدمة ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا وحاكم ما كان يسمى دولة الكونغو الحرة.
وكانت قبيلة مابوتي هي قبيلة جميع أفرادها من الأقزام، ورفضوا أن يتم معاملتهم كالعبيد ويتم تسخيرهم في زراعة المطاط، فانتقم منهم الملك ليوبولد.
لكن أوتا بينغا نجى بسبب خروجه وقت الهجوم بحثاً عن الطعام، وعندما عاد هو ومَـن معه، شاهد زوجته وأبنائه صرعى، والكارثة لم تنتهى حتى هذا الحد، بل تم أسره نحو حياةٍ من العبودية، وبيع كعبد في قبيلة تدعى “باشيليلي”
هل انتهى الأمر؟ بالطبع لا ؟
فقد حضر في نفس الوقت تقريبا المبشر والتاجر الأمريكي صموئيل فيليبس فيرنر المبشر الأمريكي السابق الذي تحول لمستكشف في الكونغو، وتاجر في الحيوانات والحيوانات الغريبة تحديدا، وتم تكليف بجلب مواطنين من إفريقيا للعرض في معرض لويزيانا في المعرض العالمي لعام 1904.
وكانت مهمة صموئيل فيليبس هو إحضار الأقزام وأصحاب العاهات، كان صموئيل قبل قدومه وقع عقدا مع عالم الإنسان ويليام جون ماكجي، وكان جون متخصص في علم الأعراق البشرية (وهو علم يعني بفلسفة التطور العرقي للبشر على أساس نظرية داروين).
ووجد صامويل في أوتا بينغا ضالته، لأنه قصير القامة لا يصل طوله إلى المتر ونصف. اقترب منه وفتح فمه ليرى أسنانه، ثم سأل، بكم هذا؟ وبعد أخذ وجذب اشتراه مقابل حفنة من الملح ملفوفة في خرقة بالية، حاول أوتا الاعتراض، لكنه ضرب بالسياط، تاركا وطنه، وجثث أبنائه وزوجته نحو المجهول، حتى وصل لمدينة سانت لويس الأمريكية.
كانت رحلة أوتا بالغة الصعوبة، حيث قُيد بالسلاسل ووضع في قفص كالحيوان لينُقل للولايات المتحدة، ليتم عرضه على الجمهور في معرض سانت لويس العالمي إلى جانب أنواع أخرى من القردة، ليقدموه بوصفه أقرب حلقة انتقالية للإنسان.
وبعد عامين من العرض كالحيوانات نقلوه إلى حديقة حيوان برونكس في نيويورك وعرضوه تحت مسمى السلف القديم للإنسان مع بضع أفراد من قردة الشمبانزي وبعض الغوريلات.
وفي نهاية عام 1906، تم إطلاق سراحه بوصاية من القس جيمس جوردون، حيث قال القس جيمس جوردون، المشرف على دار اليتامى في بروكلين “نحن نعاني من اكتئاب العنصرية بما يكفي فلا داعي لإظهار واحد منا مع القردة”، حيث كان القس من أصحاب البشرة السمراء.
ووضع في ميتم هاورد للجوء السياسي للأيتام، وهو ميتم تشرف عليه الكنسيو، ورتب القس جوردون لنقله لاييبسوم قرب لندن، ورتب الأمور لتسوية اسنان بينغا الملفتة للنظر، وعلمه لبس الملابس الأفرنجية، ليكون جزءا من المجتمع المحلي، وحسّن من لغته الإنجليزية لكي يعرف التواصل مع السكان، وبدأ بالذهاب إلى المدرسة الابتدائية في ايبسوم، وبمجرد أن شعر أن لغته الإنجليزية تحسنت بما فيه الكفاية أوقف تعليمه الرسمي وبدأ العمل في مصنع للسجائر في ايبسوم.
ولم يكن حجمه الصغير عائقا أمامه، فكان يستطيع أن يتسلق الأعمدة لإحضار ورق الدخان بدون ان يستخدم السلم بسبب مهارته التي اكتسبها في حياته في أفريقيا، وأسماه زملاءه في العمل بينجو، وكان أحيانا يروي قصة حياته ونقله من بلده مقابل الساندويشات أو البيرة.
وتبنته عائلة جريجوري دبليو هايز، وهو قيادي أمريكي من أًصل أفريقي، وأحسن إليه، لكن أوتا بدأ يخطط للعودة إلى أفريقيا مرة أخرى، لأنه لم يشعر يوما إنه جزء من المجتمع الأمريكي، فكان يحتقرهم، وكانوا يعاملوهم معاملة أقل من الأدمية، وفي عام 1914، اندلعت الحرب العالمية الأولى، فأصبحت العودة إلى الكونغو مستحيلة، فاكتئب وشعر أن حلم العودة للوطن، أصبح مستحيلا، كالكثير من الأمنيات التي تمناها ولم تتحقق.
وفي سنة 1916 بعمر 32 سنة، أوقد ناراً، ونزع الغطاء الذي وضع بأسنانه وأطلق النار على نفسه في القلب ببندقية مسروقة، ليدفن في قبر غير معروف في مقبرة في فيرجينيا بجوار قبر دبلو هايز، لكن لا يوجد ما يدل على مكان قبره حاليا، حيث تم سرقة جثته وجثة هايز بعد ذلك.
قصة أوتا دليلا على العنصرية التي عانى ويعانى منها كل مختلف، مع إناس لا يقبلون المختلف، ودليل على حياة صعبة عاشها رجل أفريقي، كل ذنبه في الحياة إنه لم يكن أبيضا.